الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى
آله وصحبه أجمعين.. أما بعد :
أيها الإخوة الكرام، إن الدنيا أيام معدودة، مستعارة
مردودة، وأنك فيها في ابتلاء وأنها لك دار علم، وأنه لا مفر لك
من نهاية الأجل، وأن القبر فتنة وحساب فإما نعيم وإما عذاب،
وأن المرء يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
ففريق في الجنة وفريق السعير.
فهل أعددت للموت عده؟ وهل فكرت يوماً في وحشة القبور؟ وهل
تأملت في أهوال الحشر والنشور؟
أعد على فكرك أسلاف الأمم *** وقف على ما في القبور من
رمم
ونادهم أين القوي منكم *** والقاهر أم أين الضعيف المهتضم
تفاضلت أوصافهم فوق الثرى *** ثم تساوت تحته كل قدم
أولاً: لحظات المحتضرين:
ولا بأس أخي الكريم، أن أذكر لك بعض لطائف المحتضرين، ممن
فتح الله عليهم لحظة الموت بالثبات واليقين وختم لهم بصالح
الأعمال جزاء على ما قدموا في حياتهم من الطاعات والقربات.
فقد حكى القرطبي في كتابه التذكرة: عن شيخ شيخه أحمد بن
محمد القرطبي أنه احتضر فقيل له: قل لا إله إلا الله، فكان يقول:
لا. فلما أفاق ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطان عن يميني وعن
يساري. يقول أحدهما: مت يهودياً فإنه خير الأديان. والآخر
يقول: مت نصرانياً فإنه خير الأديان. فكنت أقول لهم: لا. لا. أنى
تقولان هذا!! فكان الجواب لهما لا لكم.
فتذكر أخي الكريم عسر هذه اللحظات، وتذكر ما يحصل فيها من
البلاء والفتن، فوالله إنها لأحرى بالتذكر والتأمل، والاستعداد
والتشمير عن ساعد الجد بالانتهاء عما حرّم الله، وفعل ما افترضه
وأوجبه، والإكثار من الخيرات وما ينفع في الدار الآخرة. فإن ذلك
من أعظم ما يسهل على المرء سكرة الموت، ويجعله ثابتاً موقناً
في دينه ساعة الاحتضار.
فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يحتضر ويقرأ: إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
[القمر:55،54].
وهذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، عند موته يقول: أجلسوني،
فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصيت،
ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدّ النظر. فقالوا له: إنك
لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين. قال: إني أرى حضرة ما هم
بإنس ولا جن ثم قبض رحمه الله وسمعوا تالياً يتلو: تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
أخي :
فكن بالله ذا ثقة وحاذر *** هجوم الموت قبل أن تراه
وبادر بالمتاب وأنت حي *** لعلك أن تنال به رضاه
ثانياً : كيف نستعد للموت؟
أخي المسلم : أما وقد عرفت أن لحظة الاحتضار، لحظة امتحان،
وأن الموت حتم لازم، ليس منه بد ولا منه مفر، فكن لتلك
اللحظات على استعداد، وتزود بالتقوى ليوم المعاد، واعلم أنك
تموت على ما حييت عليه، وأنك تبعث على ما مت عليه. فكيف
نستعد للموت؟!
1 - اجتناب المنهيات:
فاجتنب أخي الكريم ما نهاك الله عنه، وجاهد نفسك بالابتعاد عن
الشهوات والشبهات واعلم أن الله جل وعلا يغار على محارمه.
فعن أبي هريرة أن النبي قال: { إن الله يغار، وغيرة الله أن يأتي
المرء ما حرم الله عليه }. وقد أوعد الله جل وعلا من تعدى
حدوده وانتهك حرماته بالفتنة والعذاب. فقال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ
أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
واعلم حفظك الله، أن جملة ما نهى الله جل وعلا عنه يتلخص في
ثلاثة أمور:
الأول: الشرك. الثاني: الظلم. الثالث: الفواحش.
قال تعالى في وصف المؤمنين: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ
وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ [الفرقان :
68].
فعامة مع نهى الله جل وعلا ينضوي تحت هذه الثلاثة. فمن وفق
لاجتنابها فقد استعد للموت حق الاستعداد، وكان اجتنابه نجاة له
يوم المعاد.
فقد حرم الله جل وعلا عنه الشرك وجعله موجباً للخلود في النار
فقال: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء
[النساء:48] وحرّم الظلم فقال: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ [الحج:
71].
وعن جابر أن الرسول قال: { اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم
القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على
أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم } [رواه مسلم:2578].
وحرّم الله الفواحش فقال: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
[النجم:32]. فهذه الثلاثة هي أصول المنهيات كلها، فمن حقق
اجتنابها فقد اجتنب عامة ما نهى الله عنه. من الغيبة والنميمة
والكذب وعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق،
والغش والخداع والمكر والغدر والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل
وغير ذلك مما يعد إنتهاكاً لحرمات الله وحدوده.
2- أداء الفرائض والواجبات:
ولا تتجلى حقيقة إسلام العبد إلا بأداء ما افترضه الله عليه، ومن
ذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج لمن استطاع إليه سبيلاً، فهذه
هي ثوابت الإسلام وأركانه. فعن أبي عبدالرحمن عبدالله بن عمر
بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله يقول:
{ بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد
عبده ورسوله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم
رمضان }.
فمن حافظ على هذه الفرائض وأداها على الوجه الذي يليق كما
بين رسول الله فقد جمع خصال الخير والفضل، وكان له ذلك أكبر
عون على سكرات الموت ووحشة القبر وأثابه الله على ذلك أجراً
عظيماً.
فعن أبي هريرة أن أعرابياً أتى النبي فقال: يا رسول الله دلني على
عمل إذا عملته، دخلت الجنة، قال: { تعبد الله ولاتشرك به شيئاً،
وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان }، قال:
والذي نفسي بيده، لا أزيدعلى هذا فلمّا ولّى، قال النبي : { من
سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا }.3 -
3تذكر الموت ومحاسبة النفس:
أخي الكريم: ومما يعلي الهمة، ويدفع النفس إلى الاستعداد للموت،
ودوام ذكره ومذاكرته، وتوقع حصوله في كل لحظة وحين،
ومحاسبة النفس على الأقوال والأفعال والخواطر.
قال سفيان: ( من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض
الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار ).
وقال حاتم الأصم: ( من مرّ بالمقابر فلم يتفكر لنفسه ولم يدع لهم
فقد خان نفسه وخانهم ). ولذلك فقد رغب رسول الله في زيارة
القبور لما لها من أثر بليغ على النفوس. فعن علي عن لنبي قال:
{ كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة }.
وروي عن داود الطائي أنه مرّ على إمرأة تبكي على قبر وهي
تقول:
عدمت الحياة ولا نلتها *** إذا كنت في القبر قد لحدوكا
فكيف أذوق طعم الكرى *** وأنت بيمناك قد وسدوكا
ثم قالت: يا ابناه ليت شعري بأي خديك بدأ الدود؟ فصعق داود
مكانه وخرّ مغشياً عليه.
فأكثر أخي الكريم، من ذكر هادم اللذات، واعلم أنه آت لا محالة،
واستعد للحساب وامتحان القبر.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن
تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن فإنه أهون عليكم في الحساب غداً
أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون
لا تخفى منكم خافية ).
ولذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه كل وقت وحين على أداء
الفرائض، واجتناب النواهي وأين قضى يومه، ومن أين اكتسب
ماله، وفيم أنفقه، وماذا بطش بيده وأين سارت رجله، وماذا رأت
عيناه وماذا سمعت أذنه؟
فمتى كان العبد شديد المحاسبة لنفسه، مداوماً على التوبة
والاستغفار مما يجده من التقصير والتفريط في جنب الله، كان
أقرب إلى الثبات عند الموت، وأبعد عن الفتنة وشدة البلاء.
4 - الإكثار من الطاعات والقربات:
ومن ذلك الحرص على النوافل والأذكار، وأعمال الخير وبذل
المعروف، والتخلق بالخلق الحسن مع الناس، فإنه ما من شيء
أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من الخلق الحسن.
قال رسول الله : { كل معروف صدقة }.
وقال : { ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه
ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه فلا
يرى إلا ما قدّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه،
فاتقوا الله ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة }.
وعن عبدالرحمن بن عبدالله بن سابط قال: لما حضر أبا بكر
الصديق الموت دعا عمر فقال له: ( اتق الله يا عمر، واعلم أن
لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وعملاً بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه
لا يقبل نافلة حتى تؤدى فرضيته، وإنما ثقلت موازين من ثقلت
موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم
وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً ).
فاغنم العمر وبادر *** بالتقى قبل الممات
وأنب وارجع وأقلع *** من عظيم السيئات
واطلب والغفران ممن *** ترتعب منه الهبات
ثم نادي في الدياجي *** يا مجيب الدعوات
اعف عنا يا رحيماً *** وأقلنا العثرات
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،و الحمد لله
رب العالمين.